كتب بواسطة: Salbashier

المَجْنُونَةُ التِي عَشِقْنَاهَا
الفَصْلُ الأوَلُ
(1)
نهضَ مِنْ كرسيه واتجه صوبَ نافذةِ "الديوانِ" المطلة على "الحوشِ الكبيرِ"  .. إتكأ على حافتها .. وراحَ ينتقلُ بناظريه بين شجرتي النيمِ والنخيلِ المغروستين جوار الحائط الخارجي لمنزله بمدينة أم درمان .. كأنه يختبر صبرهما على الوقوف شامختين كل هذه السنين. تناول عُلبة سجائره وأشعل سيجارة ثم جر منها نفساً عميقاً إلى رئتيه، وزفره في بطء وهو يحاول أن يشكل بدخانها شيئاً ما. عقله لا زال يترجح بين مباراة ناديه المجد الأم درماني المهمة ضد فريق البحرية البورتسوداني بملعب بورتسودان وبين مباراة نادي الوابورات البحراوي ونادي السلام المنافس اللدود المقامة بملعب البلدية بمدينة الخرطوم بحري. قال محدثاً نفسه:
·       مباراتان مهمتان ستشكلُ نتيجتهما بطولة الدورِ الأولِ لممتازِ هذا الموسم .. لكنْ! .. كيف السبيلُ إلى كسبِ هذه المباراة في ظلِ النقصِ الذي يُعاني مِنْه الفريق "المجداوي"، إنَّ الحفاظَ على فارقِ النقاطِ الثلاث مهمٌ جداً، خاصةً وأنَّ المباراة خارجِ الديارِ وفريقُ البحرية في أفضلِ حالاتِه هذا الموسِم ..
جَرَ النفسَ الأخيرَ مِنْ سيجارتِه وزفره في ضيقٍ ثم قذف بالسيجارة في إهمالٍ، وأردف متمتماً:
·       .. لا بُد مِنْ الفوزِ في هذه المباراة إنْ شاء الله .. و ..
قطعَ عليه رنينُ هاتفِه المحمولِ حديثه مع نفسِه، نظرَ إلى شاشتِه وأجابه مبتسماً:
·       أهلاً بالصُحُفِي الرياضِي الهمام .. أين أنت يا رجل؟ ..
صمتَ برهةً يستمع إلى محدثه ثم أردف:
·       إذن لحظة واحدة ..
اتجه عابراُ "الحوش الكبير" إلى بابِ المنزلِ الخارجي فاتحاً أياه ومبتسماً وهو يرحبُ بضيوفِه:
·       السلامُ عليكُم .. تفضلُوا .. و ..
قاطعَه أحدُهم قائلاً:
·       ألمْ تجدَ مِنْ كلماتِ الترحيبِ غيرَ "السلامَ" عليكم .. قُلْ .. "المجدُ" عليكُم .. قلْ أهلاً بكُم .. ولا تذكُر "السلامَ" .. مرةً أخُرى .. وإنْ لمْ تستطعْ  فقلْ "عليكُم" فقط وسنفهم .. فنحنُ أهلُ البنفسجِ وأصحابُ المعالي لا نَكْرَهُ إلا "السلامَ" ..
لمْ يظهرْ قبولاً لِمَا سمعَهُ وقالَ:
·       هلْ هذا ما تُعلِّمُونَه  للناسِ في صَحَافَتِكُم يا عاصم؟ .. تَعلَّم أنْ تقولَ الطيبَ مِنْ الكلامِ وأعلم قول الشاعر:
الصمــتُ زيـنٌ والسـكوتُ سـلامةٌ :: فإذا نطقتَ فلا تكــنْ مِكْثَـاراً
وإذا نــدمتَ على ســـكوتِك مـرةً :: فلتَنْدَمَنَ علـى الكلامِ مراراً
جلسَ وضيوفُه تحت ظِل الشجرتين يتسامرون، ابتدرَ عاصمُ قائلاً:
·       رشحَتْ أخبارٌ تقولُ أنّ هناكَ اتصالاتٌ مع نَادِي البحريةِ وأنْ وفداً قدْ سافرَ إلى بورتسودان بغرضِ التفاوضَ معهُم وتحفيزهُم لتعطِيلِنَا .. خاصةً بعدَ أنْ هزمناهُم شرَ هزيمةٍ الأسبوعَ الماضِي ..  مَا رأيكَ يا أستاذ يُوسف؟
أجَابَهُ:
·       لا تلقِ بَالاً لمثلِ هذه الشائعات .. أنتَ صُحُفِيٌ وتعلمُ أنَّ هذا لنْ يَحدثَ .. وأنْ أبناءَ الشرقِ لنْ يبيعُوا أنفسَهُم كمَا تُبَاعُ السائمَةَ .. و ..
قاطعَهُ أحدُ الضيوفِ قائلاً:
·       هذه ليست شائعاتاً فقط .. لقد سافرَ أبوبكر الشاعر مع آخرين يا أستاذ يوسف إلى بورتسودان فِعلاً .. ومعلوماتنا تؤكدُ أنَّه التقى مُحسن أوهاج هناك .. وأنتَ تعلَمُ قربَ الرجلٌ مِنْ إدارةِ السلامِ .. وبُعدَه عنَّا ..
ابتسمَ الآستاذ يوسف ساخراً وقال:
·       .. هلْ ترغبون في مَنْعِ الناسَ مِنْ التقاءِ بعضِهم بعضَاً؟ .. آملُ أنْ نركزَ على تجهيزِ اللاعبين لأداء مباراةٍ غايةٍ في الروعةِ .. بدلاً مِنْ إضاعَةِ الوقتَ فيمَا لا يفيدُ .. و ..
 قاطعَهُ آخَر:
·       يا أستاذ يوسف .. هذا لعبٌ مكشوفٌ يتم كُلَ موسمٍ .. هلْ نَسِيت مَا حَدَثَ الموسمَ السابق؟ .. وكيفَ انتهَى؟ .. ومنْ فازَ بِه؟ .. وكيفَ فازَ بِه؟ .. لا بُد منْ أنْ نتعلمِ كيفَ نكسبُ خارجَ الملعبِ أولاً ..
تبسمَ الأستاذُ يوسف وسألَه:
·       ... وكيفَ نكسبُ خارجَ الملعبِ؟
أجابَهُ:
·       نشترِي المباراةَ .. سواء مِنْ البحريةِ أو مِنْ حكمِ المباراةِ .. و ..
صمتَ برهةً وهو ينظرُ إلى الآستاذ يوسف ليرَى ما تُحْدِثَهُ كلماتُه مِنْ أثرٍ فِيهِ، ثُمَ أردفَ:
·       .. ويجبُ أيضاً السفرِ لمقابلةِ الشيخ "أبي جِبَة" .. فالرجلُ "واصلٌ" وسيساعدنَا في الفوزِ على البحريةِ ..
ضحكَ الأستاذ يوسف حتى أصابته نوبَةٌ مِنْ نوباتِ السُعال، تناولَ كوباً مِنْ الماءِ ورشفَ مِنْه رشفتين هدأ بِهمَا وقَالَ فِي قوةٍ:
·       .. إنني لا أملكُ إصلاحَ مَا فَسَدَ مِنْ أمرِكُم، واللهُ وحدهُ القادرُ على أنْ يردَ الناسَ أخياراً وأبراراً. ولكنْ! ... خُذوا عنِي هذه الكلمات لا لشراءِ الذممِ .. لا للشعوذةِ والدجلِ .. لا لأي وسيلةٍ غير أخلاقيةٍ عظيمةً كانت أمْ وضيعةٍ .. هلْ فهمتُمُونِي؟ ..
التفتَ الصُحُفِي عاصِم إلى مرافِقِيه قَائلاً:
·       ألمْ أقلْ لكُم؟ .. لا فائدَة تُرجَى مِنْ الأستاذ يوسف .. هذا الرجلُ ليسَ مِنْ هذا الزمنِ .. هو بالقطعِ مِنْ ذلك الزمنِ الجميلِ الذي نسمعُ عنْه دونَ أنْ نراهُ ..
سكتَ هنيهةً ثُمَ توجَه ناظراً إلى الأستاذ يوسف وأكملَ:
·       يا أستاذ يوسف .. لا مدينةَ فاضلة في كُرةِ القدمِ السودانيةِ .. هذه هِي الحقيقة .. نحن ندركُ أنهم يَكرَهُونَنَا .. وأنتَ تُدرِكُ كيفَ كَسَبُوا الممتازَ الموسمَ السابقِ .. لذا لا تفريطَ هذا الموسمُ .. ولا بُد لنَا مِنْ إجادةِ اللعبِ خارجَ الملعبِ ..
ابتسمَ الأستاذُ يوسفُ ساخراً وقالَ:
·       لا مدينةَ فاضلة في أي مجالٍ .. لكنِي أتعجبُ كيفَ لرجلٍ مثلكَ .. نَالَ تعليماً جامعياً .. ويشغرُ رئاسةَ تحريرِ صحيفةٍ مِنْ أكبرِ الصحفِ الرياضيةِ .. ويكتبُ مقالاً يومياً للرأي أنْ يكونَ داعيةً مِنْ دعاةِ الكراهيةِ ..
نظرَ إلى عاصمَ أسفاً، وأردفَ:
·       وسأفترضُ جدلاً .. أنهُم كمَا تقولُ قد كَسِبوا الممتازَ بطريقةٍ غير شرعيةٍ .. هلْ مِنْ دليلٍ؟ .. وهلْ بالضرورة أنْ نفوزَ باستخدامِ نفسِ الأسلوبِ؟ .. وهلْ مِنْ المناسبِ أنْ نزرعَ في عقولِ الناسِ مثلَ هذِه التُراهَات مِنْ أجلِ مباراةٍ في كرةِ القدمِ يفوزون بِها اليومَ ونفوزُ بِها غداً؟  
كسَى الإنفعالُ البائسُ وجهَ عاصمٍ وقالَ غاضباً:
·       يا أستاذ يوسف .. لستُ وحدِي مَنْ يقولُ هذا الكلام .. ألا تقرأْ الصُحُفَ؟ .. ألمْ تتحدث مع الوجيه بدر الدين الماحي رئيسَ النادي؟ .. هذا رأيه أيضاً .. السلاميون لا يرُون فِينَا شيئاً جَمِيلاً .. أمَا الكراهيةَ التِي تتحدثُ عنها فَهُم مَنْ ابتدرَهَا .. هؤلاء لا يستحقون سِوى ..
قاطعَهُ الآستاذ يوسف فِي حزمٍ:
·       عاصم! .. إنتبه لِمَا تقولُه .. لنْ أسمحَ لكَ بسبِ أي شخصٍ أو جهةٍ ما فِي منزلِي .. نحنُ نمارسُ ونشجعُ الرياضةَ ، والروحُ الرياضيةِ هي مطيتُنا إلى ذلك فإنْ لمْ نستطعْ تركنَاهَا إلى غيرِ رجعةٍ، هلْ فَهِمْت؟ ..
ذمَ عاصمُ شفتيه والتزمَ الصمتَ وأحسَ الضيوفُ ببعضِ الحرجِ، نظرَ أحدُهُم إلى ساعتِه ونهضَ واقفاً وهو يقولُ:
·       نحنُ لا نوافقَك الرأيَ يا أستاذ يوسف .. ولنْ نسمحَ للسلاميين أنْ يذيقونَا مِنْ نفسِ الكأس مرةً أخرَى .. يكفينَا مَا حدثَ الموسمَ السابق .. سنُكْمِلُ حديثَنَا مرةً أخرى .. لدينا موعداً مع رئيسِ النادي الوجيه بدر الدين الماحي ..
أجابَهُ:
·       اختلافُ الرأي لنْ يفسدَ للودِ قضيةً .. لكنِي لنْ أسمحَ بأي تصرفٍ غير أخلاقي ..
نهضِ عاصمٌ والأخرين وفي أنفسهِم شيءٌ من حتى، وقام الآستاذُ يوسف مودعاً وأردفَ:
·       تذكروا دائمَاً .. إنهَا مباراةٌ في كرةِ القدمِ  .. وليست داحسُ والغبراءُ ..

  ... نُوَاصِلُ

0 التعليقات :

إرسال تعليق