كنت في زيارة للعاصمة السودانية الخرطوم، وهي المدينة التي نشأت فيها في وقت لم يكن عدد سكانها يزيد عن مئتين وخمسين ألفا، وكان يطلق عليها في ذلك الوقت اسم العاصمة المثلثة التي تشتمل على ثلاث مدن هي الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان. وكانت المدينة مرتبطة بشبكة مواصلات حديثة من ‘التراموايات’ والقطارات والحافلات وغيرها، وأما الآن فإن عدد سكان المدينة يقارب العشرة ملايين، ومعظم هؤلاء من المهاجرين من الأقاليم أو من الدول المجاورة الذين يعتقدون أن وجودهم في العاصمة يوفر لهم فرصا أفضل في العمل، وكان أول ما لفت نظري هو العدد الهائل من السيارات التي تمتلىء بها شوارع العاصمة، وهي في معظمها سيارات رباعية الدفع وحديثة وتعطي انطباعا وكأن سكان المدينة في حالة من الثراء لا نظير لها، ولكن سرعان ما يدرك الإنسان أن سبب وجود هذا الكم الهائل من السيارات هو اتساع المدينة وتمددها في المناطق التي كانت تعتبر في الماضي أريافا مع عدم وجود وسائل مواصلات حديثة في المدينة ما يضطر السكان لشراء السيارات بقروض ميسرة من أجل التحرك لقضاء الأعمال.

وعلى الرغم من ذلك فإن الزائر للمدينة يلحظ عدم وجود البنية التحتية التي تحتاج إليها من طرق معبدة وغيرها ما يجعل المرور في شوارع الخرطوم أمرا صعبا، وعلى الرغم من ذلك فإن معظم السكان يشتكون من أنهم يدفعون ضرائب باهظة هي أقرب إلى أن تكون جباية لا توظف من أجل الأغراض الاجتماعية ،وفي هذه الظروف يشكو الكثيرون من البطالة خاصة بين خريجي الجامعات بعد أن تحولت معظم الجامعات السودانية إلى مؤسسات من أجل الربح أكثر من كونها مؤسسات لتأهيل الخريجين، ويلاحظ في هذا السياق أن الصحف السودانية تمتلىء بإعلانات الجامعات و’الكورسات’ التي تقدمها.

ولا شك أن الكثيرين يقبلون على تلك الجامعات من أجل الحصول على الشهادات التي لا تفتح لهم الطريق إلى العمل على غير ما كان عليه الحال في المرحلة الأولى من خروج الإنجليز من البلاد، ذلك أنه في تلك الفترة كان مكتب العمل يتوجه مباشرة في نهاية العام الدراسي إلى جامعة الخرطوم التي كانت تصنف العاشرة في العالم من حيث المستوى وذلك من أجل توظيف الخريجين الذين كانوا يحصلون في ذلك الوقت على أكثر من وظيفة يختارون من بينها ما يروق لهم، أما الآن فإن معظم الخريجين يتجهون إلى قيادة سيارات ‘التوك توك’ أو’الركشة’ أو العمل كباعة متجولين في الشوارع إذا تيسرت لهم الظروف، والمحظوظون هم الذين تتوافر لهم فرص العمل في بعض البلاد الغنية المجاورة. والملاحظ بشكل عام هو الغياب الكامل للسلطات في مجال الخدمات الاجتماعية، وقد ظهر ذلك جليا خلال هطل الأمطار في الفترة الأخيرة إذ وجد معظم الناس أنفسهم بدون مأوى، وليس هناك من يقدم لهم المساعدة مع تكاثر البعوض الناقل للملاريا في ظروف صحية صعبة ويحدث ذلك في وقت لا يستطيع فيه معظم المواطنين مواجهة نفقات العلاج الباهظة مع تدني مستوى الخدمات الطبية الحكومية .

ولا يبدو أن الاسترسال في تعداد الظروف التي يعاني منها المواطنون سيكون مفيدا، ذلك أن جوانب القصور ظاهرة للعيان،والمهم أن تكون هناك وسيلة للخروج من هذا الواقع الذي أصبح مؤلما بالنسبة للكثيرين، ذلك أن العاصمة السودانية يجب ألا تترك تتمدد مع استمرار جوانب القصور في الخدمات وتفشي البطالة لأن هذا الواقع قد يكون سببا في مشكلة أمنية كبيرة في المستقبل القريب، إذ ماذا يفعل المحتاجون وهم لا يرون مصادر لهم للعيش الكريم بينما يظهر الكثيرون إمكانات في البناء وامتلاك العقارات غير متوافرة للكثيرين. ولا يبدو في ضوء هذا الواقع أن المسؤولين مشغولون بهذه القضية، ذلك أن توجهات معظم السياسيين السودانيين تتركز في كيفية الوصول إلى الحكم أو المعاونة فيه، ولذلك فإن المتصفح للصحف السودانية لا يرى اهتماما بالبنية الأساسية للدولة من حيث جوانبها الاقتصادية بل يرى التركيز كله منصبا على التوجهات المصلحية للفرق السياسية المتنافسة، وهي في معظم الأحيان فرق ‘أيديولوجية’ وليس لها رؤية واضحة في كيفية بناء الدولة الحديثة. وهذه هي المشكلة التي ظل يعانيها السودان منذ أن نال استقلاله في عام 1956.

ولا نريد في الواقع أن نخلص إلى تحميل نظام الحكم القائم المسؤولية في ما وصل إليه الحال في السودان حتى لا يبدو الأمر وكأنه مواجهة بين اتجاهين في الحكم، ذلك أن المشكلة في طبيعتها أكبر من ذلك بكثير، غير أن هذه حقيقة لا يريد الكثيرون رؤيتها ويعتبرون أي موقف مخالف لموقفهم هو ضرب من الطموح فقط من أجل الاستيلاء على الحكم. وباختصار شديد فإن المطلوب في الوقت الحاضر هو أن يبدأ الناس في السودان التفكير بجدية في كيفية إعادة بناء الدولة الحديثة ،ليس فقط من أجل الاستفادة من إمكانات السودان الواسعة، بل أيضا من أجل تجاوز الظروف التي أدت في الماضي إلى انفصال جنوب السودان وأشعلت – في الوقت ذاته- كثيرا من الصراعات الجهوية في غرب السودان وشرقه، والتوجه أيضا من أجل حل المشكلات العالقة، ومن أهمها التحديات التي نشأت بشأن مياه النيل، وهنا لا بد أن نشيد بالتوجه الجديد لحكومة السودان التي رأت أن إقامة علاقات متينة مع الجارة الإثيوبية هي التي ستؤمن مستقبل مياه النيل وليس ذلك فقط من أجل إقامة علاقات سياسية جيدة مع إثيوبيا بل أيضا من أجل فتح المجال للإثيوبيين لدخول السودان والعمل فيه في المجالات التي تناسبهم، وقد بلغني أن الإثيوبيين الذين دخلوا السودان حتى الآن بلغوا عدة ملايين وليس في ذلك أي ضرر بل فيه منافع كثيرة، وكذلك الحال مع مصر إذ سمح لأعداد كبيرة من المصريين من الدخول إلى السودان والعمل في مجال البناء والمهن التي تناسبهم، ويجب أن نفرق هنا بين العمل في مجال المهن والعمل في الوظائف، ذلك أن معظم هؤلاء المهاجرين جاؤوا للعمل في مهن تناسبهم وليس من أجل المنافسة في الوظائف التي هي حق مشروع للمواطنين، ولا شك أن وجود عناصر إثيوبية ومصرية في داخل السودان سوف يقوي الروابط بين دول حوض النيل وسوف يبعد التهديدات التي تحركها أياد أجنبية لأغراض تخصها.

وفي ضوء هذه الصورة التي رسمناها يبدو أن ما يحتاجه السودان هو وضع الأسس لقيام الدولة المدنية التي يتعايش فيها الجميع وتبعد في الوقت ذاته الصراعات المؤسسة على اختلافات العرق أو العقائد، وقد لفتت نظري في إحدى الصحف السودانية عبارة تساءل فيها صاحبها هل نحن عرب أم زنوج وخلص أخيرا إلى القول نحن سودانيون.

القدس العربي

0 التعليقات :

إرسال تعليق